رفعت سماعة الهاتف ، و كانت عيناها محمرتين من البكاء ، قالت له : أنا مصرّة على عدم إتمام هذه الخطوبة مهما كلف الأمر ، و أغلقت السماعة بوجهه ، و عادت إلى البكاء .
لقد كان طبيباً في مستشفى التوليد المركزي التابع لكلية الطب ، و كانت هي على وشك أن تتخرج من كلية الطب تنتظر فارس أحلامها ، كانت تعرف بعضاً من صفاته ، و لم يكن هناك أي سبب يمنع موافقتها عليه عندما تقدم لخطبتها منذ بضعة أشهر ، فقد كان من عائلة أكثر من معروفة ، و كان والده رئيساً في إحدى دوائر المرور ، و كان يملك بيتاً ، و وعده والده بسيارة عند افتتاحه للعيادة ، و كانت تلك أمور هامة لمجتمعها ، كانت تحلم بأمور غير تلك ، و لكنها كانت تصوّر لنفسها أنها ستجد فيه ما تتمنى ، لقد كان وسيماً ، و لكن لم يكن مظهره الأشبه بالحمل الوديع يدل على نفسه " ذات القرون ".
تمت الخطبة و كُتب الكتاب - كما يقال - ، و لكن الزفاف أُجِّل حتى الصيف حتى يتسنى لهما قضاء شهر العسل في فرنسا ، و بدأت تلتقي به اللقاء الحلال في بيت أهلها و المستشفى ، كان حديثه يمزِّق حلماً حاكته السنين ، و لكن نفسها الطيبة كانت تضخّم لها الحلو القليل و تصغّر أو تخفي المر الكثير .
لقد حدثها ذات مرة عن زميله السيء الذي خطف منه مريضته ليسجّلها على اسمه و يجري لها عملية قيصرية ليزيد في رصيده من العمليات ، لم تفهم عليه ، و استفسرت بلطف مستوضحة ، قال لها : إنهم يقيّموننا حسب عدد ما نجريه من عمليات و حسب نوع تلك العمليات ، و لذلك يحدث بيننا نوع من التسابق على المرضى ، كان يتكلم و كأنه يصوغ بديهيات للعصر .
شَعَرَتْ بالغثيان و هي تتخيل النساء الحوامل كما النعاج تتسابق الذئاب عليها ، كانت لها صديقة ممرضة تعمل في مستشفى التوليد ، قررت أن تزورها في سكن الممرضات ، و هناك سألتها عن القيصريات ، ضحكت الممرضة و هي ترد شعرها القصير للوراء ، و قالت : هل كذب عليك خطيبك و قال إنه أجرى أكبر عدد من العمليات بين زملائه؟ ، لا تصدقيه ، فقد سبقه الدكتور حسام الأسبوع الماضي ، ردت هيفاء و قد زال الغطاء : و قبل الأسبـــوع الماضي ؟ ، أجابتها الممرضة : الحقيقة قبل ذلك خطيبك كان في القمة ، لقد كان ذكياً بإيجاد الأسباب ،وكان يعرف كيف يمهد الطريق و يقنع الأهل و الأساتذة برأيه ، أما هذا الأسبوع فيبدو أنه مشغول بك بعض الشيء ، على كلٍ كيف حال قمر الزمان معك ؟، أجابت هيفاء بصوت مبحوح تكاد تتقطع كلماته : الحمد لله ، أشعر ببعض الصداع ، هل لديك حبة أسبرين ؟… ، و ذهبت صديقتها و عادت و بيدها كأس ماء رسمت عليها شجرة نخيل ، شربت الحبة ، و تذكرت قصة العذراء ، ودّعت صديقتها ، و ذهبت للبيـــت تنتحب .
لقد لاحظت زميلاتها في الكلية كيف أن النحول بدأ يعتدي على جسدها الغض ، و كيف أن الشحوب صار يستعمر ملامح وجهها البريء ، كانت تحاول الإبتعاد عن مناقشة أمور الخطبة و الزواج مع صديقاتها و حتى مع أهلها ، لقد بدأت تشعر أن الزواج قفص كما يقولون ، لا بل بدأت تشعر أنها ذاهبة إلى سجن مظلم لا حياة فيه .
كانت ذات مرة تتساءل : كيف يجرون عملية لامرأة ليست بحاجــــة لها ؟، كيف يجرؤون على ذلك؟، أليس هناك قوانين تعاقبهم ؟، أليس ذلك حراماً ؟، و لم يكن لديها جواب إلا البكاء الذي لم يقطعه إلا صوت رنين الهاتف و خطيبها على الجانب الآخر يبشرّها بأنه قد أجرى اليوم عملية استئصال رحم لسيدة لأول مرة في حياته ، و مرت كل الأمور بسـلام - كما قال - ، قررت أن تعرف الحقيقة من صديقتها ، ذهبت إليها ، و عرفت بالدليل القاطع أن فارس أحلامها قد زوّر التقرير الطبي ليثبت أن الرحم المستأصل مصاب بالسرطان ، لقد دخلت تلك السيدة المشفى برحم معطاء و خرجت منها ببطن خاوية عقيمة ، لقد جعلوها صحراء مقفرة ، و حرموا أشجار النخيل من عشقها .
رجعت هيفاء إلى بيتها و صور السباع الجائعة للحم البشري تتناطح فوقها و تثور إلى جانبها ، ركضت في الشارع المزدحم بالسيارات ، و ارتمت بحضن والدتها و أجهشت بالبكاء ، كانت تعلم بأن خسائرها ستكون كبيرة بمعايير الأقارب و الجيران ، كانت تدرك أن قطار العمر يركض و يطير ، كانت تعلم أنه طبيــب غني و ابن مســـؤول كبير ، نعم كانت تعــــرف … وتعرف ….. و اتخذت القرار …